دروس البكالوريا Bac 20

اقرا ايضا






قصيدة عروة بن الورد
"أقلي عليَّ اللوم يا بنةَ منذرِ"
قراءة في المعاني والأساليب

د. شاذلي عبد الغني إسماعيل




الشاعر:

عروة بن الورد العبسيُّ، أحد صعاليك العرب وفرسانها المعدودين، كان يُغِير على الأغنياء ويأخذ أموالَهم، لكنه لم يكن يُغير إلا على البخلاء منهم، ولم يكن يأخُذُ أموالهم لنفسه، وإنما ليُوزِّعها على الفقراء، وقد أثار هذا الأمرُ إعجابَ البعض، فأثنوا على كرمه وإيثاره وشجاعته، ومن ذلك:

قول معاويةَ بن أبي سفيان رضي الله عنه: "لو كانَ لعُروةَ بنِ الورد ولدٌ، لأحببتُ أن أتزوَّج إليهم".

وكان عبدُالملك بن مَرْوان مُعجَبًا بشخصيته، فهو مرة يقول: "مَن زعم أن حاتِمًا أسمح الناس، فقد ظلم عروة بن الورد".

ويقول في أخرى: "ما يسرُّني أن أحدًا من العرب ولدني إلا عروة بن الورد".

 

وقد لُقِّب بعروة الصعاليك؛ لأنه كان مَن أفقر مِن العرب ضمَّه إليه، فمَن كان يمكنه أن يغزو معه غزا، ومَن لم يمكنه ذلك جعل له شيئًا في الفيء، وأقعده.

والصعاليك: الفقراء.


مناسبة النص:

يعرِضُ لنا النصُّ لحوارٍ دار بين عروة وزوجِه سَلْمى التي لامَتْه على تعريض نفسه للهلاك في غاراته التي يشنُّها من أجل فقراء قومه، ويُقدِّم لنا عروةُ تفاصيلَ هذا الحوار الذي يعرض كلٌّ منهما فيه وجهة نظره، محاولًا أن يدعمَها بما يمتلكه من منطق، ويعضدها بصور من الواقع، أو من الأساطير التي كانوا يؤمنون بها، كل هذا داخل الإطار الأسلوبي الذي تبرُزُ مِن خلاله المشاعر؛ فالمرأة تتملَّكها حالةٌ من الخوف والقلق يخلقانِ رغبةً قوية في إثناء عروةَ وكفِّه عن تعريض نفسه للهلاك!

 

بينما تظهر من كلماتِ عروةَ وتراكيب عباراته وصورِه حالةُ الإصرار والشجاعة والشفقة على قومه، والرغبة في خلود سيرته، وحبه لامرأته تلك، وإن كان صوت عروة يستحوذ على المساحة الكبرى في النص، فذلك لأن رؤية المرأة محدَّدة، وهي الرفض لغاراته رفضًا ناتجًا عن خوفها عليه، بينما هو يمتلك أسبابًا كثيرة تدفعه لمواصلة هذه الغارات، ومن ثَم فهو يُقدِّم لها هذه الأسباب ويحاول أن يستخدم أساليب عدة من أجل إقناعها.

الشرح:

ابنَة مُنذرٍ: زوجه سلمى التي كان قد أسرها وأعتقها وتزوَّجها، وأنجبت له أولادًا.

قبل أَلَّا أملك البيع: كناية عن الموت، والمقصود بالبيع الشراء؛ أي قبل أن أموت فلا أستطيع شراء الثناء الحسن.

هَامة: طائرٌ يزعم العرب أَنه يخرج من هامة القتيل (أعلى رأسه)، ويقول: اسقُوني اسقُوني، حتَّى يُؤخذَ بثأره ويقال له: الصَّدى.

صَيِّر: قال أبو عمر الشيباني في كتاب الجيم: الصير: القبر.

تُجاوبُ: يريد أن هذه الهامة إذا صاحت تجاوبها أحجار هذا المكان عبر صدى صوتها، فكأنها ترد عليها.

الكناس: موضع.

مَعرُوف: من تعرفه.

ومُنكَرِ: من لا تعرفه.

شرح الأبيات:

يتوجَّه عروة بن الورد إلى زوجِه سلمى التي تُكثِر مِن لومه خوفًا عليه من غزواته التي لا تنقطع، ويأمُرُها بأن تنام فتستريح، ويستريح هو مِن كثرة لومها، أو أن تسهرَ لكن دون أن تزيد في اللوم، ثم يحاول أن يُوضِّح لها دوافعَه للمخاطرة بحياته، فنفسُه هذه التي تلومه خوفًا عليها هي التي تدفعه لذلك؛ لأنه يريد قبل أن يموت - فلا يملك شراء المجد والذِّكر الحسن - أن يشتريه في حياته، فما يُخلِّد الإنسانَ هو ما يبقى له بعد فنائه من جميل الذِّكر.

وكأنه هنا يتخيَّل أنه يموت في إحدى غزواته، فيخرج من أعلى رأسه - كما يزعم العرب في أساطيرهم - طائرٌ يصيح: اسقوني اسقوني، ويتردَّد صدى صوته بين أحجار المكان الذي يُدفَن فيه، ويشتكي الظمأَ إلى مَن يعرفه ومَن لا يعرفه، فلا مناص من التضحية أثناء الحياة للوصول إلى ما أريده لنفسي من خلود الذِّكر قبل الموت. 

الأساليب:

يستخدم الشاعر في بداية النصِّ فعلَ الأمر، فلا مناص هنا من الكفِّ عن اللوم الذي لن يُزحزِحه عما هو فيه، ومِن ثَم يأتي الشطر الثاني تأكيدًا لهذه الرغبة، فهو يأمرها أن تنام، وإن لم تَشْتهِ النوم فلها أن تسهر لكن دون أن تعيد عليه اللوم.

نُلاحِظ أن الشاعر يستخدم النداء هنا مرتين في البيت الأول والثاني، كما أننا نُلاحِظ الفارق في الاستخدام؛ فهو في المرة الأولى يذكر أداة النداء ويناديها بابنة منذر، وفي البيت الثاني يحذف أداة النداء ويناديها بكُنيتها، أم حسان، ففي المرة الأولى نستشعرُ إحساسه بالبعد النفسي نتيجةً لرفضه وضيقه مِن تكرار لومها، ثم كأنه شعر أنه قسا عليها، وهي الحبيبة لنفسه، فجاء بالنداء دون أداة، وكنَّاها باسم ولدهما، وكأنه يقول لها رغم ذلك: أنت القريبة إلى نفسي، الحبيبة إليها، أم أولادي، ثم بدأ يسوق الأعذار لكثرة غزواته.

يستخدم الشاعر إنَّ ويأتي بخبرها اسمًا (مشتري)؛ ليؤكد ويفيد ديمومة وثبات حاله وإصراره على شراء المجد.

يستخدم عروةُ الصورةَ الأسطورية التي آمَن بها الجاهليون، ليُصوِّر الحالة التي تكون عليها رُوح المقتول الذي لم يُؤخَذ بثأره؛ مِن ظمأ وضعف وشكوى، ليقنعَها برغبته في تخليد ذكره قبل أن يموت ويصبح على هذه الحالة.

لا يكتفي الشاعر بذكر الهامة، بل يُصوِّر لها مشهدًا يكثِّف من الإحساس بعجزها، ويستخدم في تصويره لهذا المشهدِ الفعلينِ المضارعين (تجاوب - تشتكي)؛ ليستحضر من خلاله الحدث أمام المخاطب، ويدل على تجدد هذه الحاله.

معاني الكلمات:

أُخلِّيك: أُقتل عنك فأفارقك، فتصبحين خاليةً للأزواج.

أُغْنيك عَن سوء محضر: إذا سلمتُ فسأعود عليك بالمال الذي يُغْنيك عن الحضور بمكان تذوقين فيه ذلَّ السؤال للناس.

فَازَ سهمٌ: كانوا في الجاهلية إذا اقترعوا يضعون السهام في قدح (وعاء من الخشب)، ومَن يخرج سهمه أولًا يقولون له: فاز سهمك.

المنية: الموت.

خَلْفَ أدبارِ البُيوتِ: كان الضيف إذا نزل بقوم نزل بأدبار البيوت حتى يُهيَّأ له مكانه.

الشرح:

في القطعة الأولى ذكر عروةُ أهمَّ الأسباب التي تدفَعُه إلى الغزوِ ومواجهة الموت، وهو طلبُه الخلودَ عبر بقاء ذكره بعد موته، وهو هنا يوصل محاولة إقناعها عبر ذكر سبب يتعلق بها هي، فهو يُغامِر بحياته من أجلها هي أيضًا، ومِن أجل أن تحيا حياةً كريمة، وهو في غزواته بين أمرينِ: إما أن يموت فتستطيع أن تتزوَّج مِن بعده، وإما أن يعيش فيعود بالمال الذي يحفظ لها كرامتها ويُغْنيها عن أن تكون في موضع تمدُّ فيه يديها بالسؤال، وهو يُؤكِّد هذا المعنى بصورةٍ أخرى؛ حتى يجعلها تتخيَّل الذل الذي يوقع فيه الاحتياج للآخرين، فهو والموت يقترعانِ، فإن فاز الموت فهو غير جازعٍ؛ لأنه على يقين أنه لا يمكن تأخير ميعادِه، أما إن فاز هو ورجع غانمًا، فإنه سيَحمِيهم من الضيم والنزول لاجئين خلف أدبار البيوت، بعد أن كانوا أعزةً في بيوتهم.

الأسلوب:

يحاول الشاعرُ إقناعَ زوجه سلمى عبر التقابل بين الصور، والتقابل هنا بين ما سيعود عليها من بقائه في ظل الغزو، سواء مات أو عاد لها محمَّلًا بالغنائم، وبين بقائه معها في ظل الحاجة إلى المال وهو ما يعرضها لذل السؤال، أو اللجوء لضيافة الآخرين.

الصور هنا عمَّقت من الإحساس بالفكرة التي يريد إيصالَها، سواء عبر الصورة الاستعارية التي جسَّم فيها المنية، وجعل نفسه مقارِعًا لها لا يخشى النتيجة التي تترتب على هذه المقارعة؛ لأنه لا يَهَبُها، أو عبر الصور الواقعية التي يجعلها تستحضر الحالة وتتخيلها ماثلةً أمامها مثل حضورها وهي تسأل الناس المال، ومثل وجودهم خلف أدبار البيوت ضيوفًا لاجئين.

يستخدم الشاعر الاستفهامَ المقصود به النفي: وهل عن ذاك من متأخِّر؟ حتى ينبهَها ويدفعها للإجابة التي هي يقينية.

معاني الكلمات:

ضَبُوءًا: ضبأ الصائد؛ أي التصق واستتر بالأرض ليَخْفَى عن فريسته فيفاجئها.

بِرَجْلٍ: أي برجالة؛ أي يسيرون على أرجلهم.

وبِمِنْسَرِ: الجماعة من الخيل بين الثلاثين إلى الأربعين، وقيل: أكثر، وقيل: أقل.

أقتاد: جمع قَتَدٍ، وهو خشب الرَّحْل الذي يُوضَع على ظهر البعير للركوب.

صَرْمَاء: التي قطعت منها حلمات الضَّرْع التي يرضع منها الرضيع؛ لينقطع لبنها، فتشتد قوتها ويشتد لحمُها.

مُذْكِر: التي تلد الذكور، وهو أفظع ما يكون من نتاج العرب وأبغضه إليهم.

فجُوعٍ بهَا للصَّالحينَ: تهلك الصالحين فتفجع المحبِّين لهم، وفي شرح ابن السكِّيت: "الصالحون عند العرب ذوو المعروف لا ذوو الدين"، وفي جمهرة أشعار العرب: "الرجالُ الذين يطلبون معالي الأمور".

مَزِلَّةٌ: هي موضع للسقوط والانزلاق لا يستقرُّ عليها أحد، وفي لسان العرب " والمَزَلَّة والمَزِلَّة - بِكَسْرِ الزَّايِ وَفَتْحِهَا -: الْمَكَانُ الدَّحْضُ، وَهُوَ مَوْضِعُ الزَّلَل".

ردَاهَا: الردى: الهلاك.

الخفضَ: الدَّعة ولِين العيش.

يغشاك: يأتيك.

سَوْدَاء المعاصم: المعصم موضِع السوار من اليد، وسوداء المعاصم من شدة الجهد والجوع والبرد والاصطلاء بالنار.

تعتري: تأتيك طالبة المعروف.

ومستهنئ: طالب العطاء، استهنأ فلان: طلب عطاءَه.

زيد أبوه: يعني رجلًا من قومه يجمعه وإياه زيد، وهو جد عروة.

فاقنَيْ حياءك: الزمي حياءك.

الشرح:

في هذه الأبيات يظهرُ صوتُ سلمى زوجُ الشاعر وهي تجادِلُه وتحاول أن تُقنِعه بالكف عن غزواته، وتعبيرُ (لك الويلات) يُشعِرنا بالعذاب النفسي والقلق القاسي الذي تعانيه، خوفًا عليه في كل مرة يغزو فيها، وهي تودُّ أن يُشارِكها في هذا الإحساس حتى يشعرَ بها.

وبعضهم يزعم أن ذلك دعاءٌ منها له في معرِض الدعاء عليه، كما تقول العرب: (قاتله الله ما أرماه!)، وهي تسأله عن تركه للغزو الذي يفاجئ به الأقوام، ويتخفَّى لهم ملتصقًا بالأرض، كما يفعل الصائد مع فريسته، وهو مرة يذهب إليهم مع رجَّالة ومرة مع خيَّالة، وهي تسأله: هل سيحافظ على ماله هذا العام؟ وتحاول أن تصور له ديمومة وجودِه على حافَةِ الخطر والهلاك، فجعلَتْه فوق أقتاد ناقةٍ أتبعَتْها بالعديد من الصفات المرعبة؛ فهي ناقة قد قُطِعت حلماتها حتى لا تُرضِع لتقوَى وتشتد، وهي تلد الذكور، فهي أبشع ما تكون عند العرب، وتكثر من إدخال الفجيعة على أهل ذوي المروءات الذين تُهلِكهم، وهي لا يستقر على أقتادِها إنسان؛ لأنها موضع للسقوط والانزلاق، والجميع يخشى رداها، ويبدو أن استخدام العرب لهذه الناقة رمزًا للهلاك المتوقع، كان منتشرًا، فهذا هو مالك الهذلي يقول:

فَبَعض الوَعيدِ أنَّها قَد تَكَشَّفَت ♦♦♦ لِأَشياعِها عَن فَرجِ صَرماءَ مُذكِرِ

وهو هنا يبيِّن لها أسبابًا أخرى تمنَعُه أن يعيش في دَعةٍ وراحة وبُعْد عن المخاطر، ومنها رؤيته للمحتاجين من الأقارب وهم يغشون دارَه، ولتلك الفتاة الفقيرة التي تمتهنُ نفسَها في الخدمة، وتصطلي النار في ليل الشتاء القارص، دون أن تمتلك قفَّازين يحميانِ مِعْصَمها من السواد، وتدفعها الحاجة دفعًا لذلِّ السؤال، وضعيف محتاج يجمعهما جدٌّ واحد يأتيه فيطلب عطاءه، فلا يستطيع له ردًّا، فعليها بعد ذلك أن تحفظ حياءها وتكفَّ لومها وتتدرَّع بالصبر.

 

الأساليب:

1 - أضفى الحوارُ على النص حيويةً؛ حيث جعَلَنا نستمعُ إلى صوت المرأة عبر كلماتها التي تُصوِّر مشاعرها.

2- استخدام الفعلِ المضارع في القطعة أيضًا أكسَب الصورَ حيويةً، وجعَلَنا نستحضرُها أمامنا، إضافةً إلى ما أفاده مِن تجدُّد للحدث، فقولها يتكرر، كما أن رؤيتها له وهو على حافَّةِ الهلاك تتكرَّر أيضًا، كذلك غشيان ذوي القربى، وحاجتهم له، واعتراء الفتاة الفقيرة سوداء المعاصم، كل ذلك جعلنا الشاعر نراه وهو يتجدد ويتكرر عبر استخدامه لصيغة المضارع.

3- استخدام الجُمُل الاسمية أيضًا له دلالته، فقولها هي: "تارك، مستتثبت"، يُوحِي برغبتها الشديدة في تحقيق الحدث وثبوته.

والإتيانُ بصفات الناقة التي ترمز للهلاك أسماءً، يجعلُنا نرى هذه الصفات ثابتةً ودائمة فيها لا تتزحزح عنها.

أيضًا استخدام الاسم "مستهنئ" يُوحِي أننا أمام شخصٍ في حالة احتياج دائم للعطاء، فهو عاجز عن الكسب.

4- جاء الاستفهام: هل أنت تارك... ومستثبت؟ ليُوحِي برغبة المرأة في سماع الإجابة التي تمنحها الراحة.

5- فعل الأمر (فاحذر) يُجسِّد خوفها وحرصها عليه، كما أن فعلَي الأمر (اقني حياءك واصبري) يُجسِّدان ضيقه من إصرارها على لومه.

6- في قوله: "أبى الخفض مَن يغشاك" إسنادُ الفعل إلى سببه، فهم لا يرفضون أن يعيش في دعة حقيقة، لكنهم سببٌ يدفعه لهذا الرفض، ويمكن أن نقول: إن هناك مضافًا إليه محذوفًا؛ أي حاجة مَن يغشاك من ذي قرابة، وقدم المفعول به هنا الخفض؛ وذلك لأهميته بالنسبة لها، فهو ما تريده وترجوه له.

معاني الكلمات:

لحى اللهُ: قبَّح ولعَن.

صُعلُوكًا: فقيرًا.

المُشَاشِ: العَظْم الليِّن الذي يُمضَغ ليخرج منه الدسم.

مَجزَر: اسم مكان مِن جزر، وهو موضع ذبح البهائم.

قِراهَا: القِرَى: ما يُقدَّم إلى الضيف.

مُيسَّرِ: الذي كثرت إبلُه وغنمه.

كالعريش: الخيمة من الخشب أو الجريد.

المُتَعفِّرِ: المغطَّى بالتراب.

طليحًا: مهزولًا ضعيفًا.

المُحَسَّرِ: المتعب، يقال: حسرت الدابةُ: أعيت وكلَّت.

الشرح:

الشاعر هنا يستخدم وسيلةً أخرى لإقناع امرأته، عبر تصوير مشاهدَ لصعلوك فقيرٍ قرَّر أن يعيش عالةً على غيره، وكأنه يقول لها: هل ترضين لزوجِك أن يكون مثل هذا؟

يبدأ الشاعرُ في الحديث عن ذلك الصعلوك بسبِّه ولعنه، ليُعلِن أننا أمام إنسانٍ ذي صفات مذمومة محتقرة، فهو إذا دخل عليه الليلُ تراه في فمه العظام فهو مصافيها العاشق لها، وقد اعتاد وألِف الأماكنَ التي تذبح فيها الإبل والأغنام، في انتظار ما يجود به الآخرون من لحمها وعظامها، والغنى عنده أن يعطيه صديقه الغني ما يُشبِع به بطنه، وهو لا يشعر بفقراء قومه، فهو قلما يطلب المال إلا لنفسه، وفي الضحى تراه راقدًا كالخَيمة المنهارة، أما في عشاء، فهو ينام ليُصبِح وقد شبِع نومًا كما شبع أكلًا، وتراه يفرك الحصى الذي التصق بثيابه المتعفِّرة من نومه الطويل على الأرض، وإذا رأيته يعين أحدًا فإنه يعين نساء الحي إذا طلبن منه العون؛ حيث الرجال في مهامِّهم في الصباح، أو حين ينام الصعاليك الذي يعودون بعد الغزو، فيأتي الضحى وقد أعيا وضعف وصار كالبعير المتعب.

 

الأساليب:

1- استخدم الشاعر الجملةَ الدُّعائية في بداية حديثه عن الصعلوك؛ ليبيِّن لامرأته مدى احتقاره ورفضه لمن ينأى بنفسه عن معالي الأمور ويرضى أن يعيش عالةً على غيره.

2- التصويرُ الواقعيُّ واختيار المشاهد بعنايةٍ سمةٌ واضحة في تلك الأبيات، فالشاعرُ لم يلجأ إلى الوصف التقريري لذلك الرجل ووَسمه بالأنانية والكسل والطمع وذلة النفس وهوانها؛ وإنما أتى بالمشاهد التي تُجسِّد هذه الصفات، من خلال عرض ما يفعله في يومٍ كامل مع بداية الليل وفي العشاء وفي الصباح وفي الضحى.

3- لاختيار الكلمات دلالاتُه الموحية؛ مثل: مصافي وآلف، اللتين تشعران بالمحبة والاعتياد والراحة النفسية، كما أن الإتيان بهما أسماءً مما يُفِيد ثبات وديمومة هذه الأوصاف له، وكذلك قوله: "قليل التماس المال".

4- التشبيهان في البيت لم يأتيا ليصوِّرا فقط التشابه الحسي، وإنما يوحيان بالصفات المعنوية التي يشترك فيها المشبه مع المشبه به، فهو كالعرش المجور، الخيمة الساقطة التي لا يستظل بها أحد ولا تنفع أحدًا، كذلك هو لا ينتفع به أحد من قومه، وهو كالبعير المحسر، فقيمته لا تتجاوز قيمة البعير التعب.

5- يستخدم الشاعرُ الفعلَ المضارع في وصف أفعال هذا الصعلوك: "يعد، ينام، يصبح، يحت، يعين"؛ مما يدلُّ على تَكرار هذه الأفعال، وتجدُّد حدوثها.

معاني الكلمات:

صفيحة وجهه: بشرة جلده.

شهابِ: الشعلة من النار.

القابِسِ: الذي يحمل شعلةً مِن النار، أو الذي يُوقِدها ويشعلها، أو الذي يطلبها.

المُتَنوِّرِ: المستضيء بالنار.

المنيحِ: سهمٌ من سهام المَيْسِر، لم يكن له نصيب، ولكن كانوا يكثرون به الأقداح، فإذا خرج صاحوا: رد رد ليس هو لأحد، فهم يزجرون ذلك الصعلوك كما يزجر ذلك السهم إذا خرج.

المُشَهَّر: الشهير.

تَشَوُّف: التطلع والاشتياق.

المتنظر: الذي اقترب رجوعه إلى أهله، فهم ينتظرونه ويتطلَّعون لموضع قدومه.

أجدر: كان أحق بالغنى وأحرى.

الشرح:

يقابل الشاعرُ الصورةَ الأولى للصعلوك الذي يعيش عالةً على غيره، بصورةِ الضد أو الصعلوك الذي يجازفُ بحياته من أجلِ عشيرته، ولا شك أن التقابلَ بين الصورتين يُكثِّفُ مِن دلالات ما في كل صورة منهما؛ فالضد يُظهِرُ حسنَه أو قبحَه الضدُّ، هذا الصعلوك مشرقُ الوجه كنور القطعة من النار لمن يستضيء بها، وفي الوقت الذي يكون فيه الصعلوك الأول نائمًا أو طاعمًا أو مستطعمًا، يكون هذا الشجاعُ مشرفًا على أعدائه، يصيحون في وجهه كما يصيح أهل الميسر على ذلك السهم الذي ليس له نصيب إذا خرج ويرددون: رد رد ليس هو لأحد، حتى إذا ابتعدوا عنه فإنهم يعرفون قوةَ عزمه؛ لذلك لا يأمنونه، ويترقبون خروجه عليهم في أي وقت، ويتطلعون كما يتطلع أهل الغائب الذي حان رجوعه، فذلك الصعلوك إن مات فيكفيه أنه خلد ذكره بين قومه الذين يحمدونه، وإن أصبح غنيًّا فهو حقيقٌ بالغنى؛ لأنه لن يبخل على أهله.

الأساليب:

1- يعتمدُ الشاعر هنا على التشبيهِ في توضيح المشاهد التي قد لا يستوعِبُها السامع؛ لأنه لم يرَها، فيشبهها بصورٍ مكرَّرة في الحياة العادية، فزجرُ الأعداء له يُشبِه زجرَ أصحاب الميسر لذلك القدح، ومنظرُهم وهم يتطلَّعون للناحية التي يخشَون قدومَه منها مثلُ منظرِ تشوُّف أهل الغائب الذي حان رجوعه، وهو في التشبيه الثاني يعتمدُ على الشكل الحسيِّ، وإن كان الفارق النفسيُّ بين الحالين مختلفًا تمامًا، الأمر الذي يضعف التشبيه.

2- تشبيهُ الشاعر لوجه ذلك الصعلوك بضوء شهاب الرجلِ المستضيء بالنار، لا يعتمد وجه الشبه فيه على البهاء والضياء فقط؛ وإنما نستطيع أن نلمح من خلاله ذلك التشابهَ المعنويَّ؛ فأصحاب هذا الرجل يستضيئون برأيه وبأفعاله وبخطواته التي تسبقهم وتكشف لهم الطريق في الغزوات كما يفعل المستضيء بالقبس. 

3- الإتيان بالاسم (مطلًّا) يدل على الإصرار والثبات، فهو لا يطل ويعود، لكنه ثابت على إطلاله عليهم، يأتي بالمكان "بساحتهم"؛ ليرينا أنه رغم كونِه في مكانهم لكنهم لم يجرُؤُوا على مواجهته، وغاية ما فعلوا أنهم يزجرونه عنهم بألسنتهم، بل قد يبتعدون عن ساحتهم خوفًا منه.

3- الغرضُ الأساسي للنصِّ هو مناقشة امرأته في خوفها عليه من الموت، ومن ثَم جاء هنا بالصورة الخاتمة لحديثه عن ذلك الصعلوك بتخيُّله في حالة موته وفي حالة بقائه، ليُكرِّر فكرة الخلود بعد الموت من خلال بقاء الذِّكر والثناء الحسن، وهو في حياته حقيقٌ بالغنى الذي تعب من أجله، والذي لم يبخَلْ به على قومه.

معاني الكلمات:

معتم وزيد: بطنانِ من عبس، وهما جدَّاه.

نَدَبٍ: خطر.

مخطر: من يخاطر بنفسه.

كواسع: تسير وراء الإبل تطردها.

السوام: جمع سائمة، السَّائمَةُ: كلُّ إبل أَو ماشيةٍ ترسلُ للرَّعي ولا تُعْلَف.

المنفر: المذعور.

القَنَا: جمع قناة، وهي الرمح الأجوف.

وبيضٍ خِفافٍ: سيوف.

النجد من الأرض: قفافها وصلابتها، وما غلظ منها وأشرف وارتفع واستوى.

شثٍّ وعَرْعَرِ: الشث والعرعر: نوعانِ من أشجار الجبال.

 

يُنَاقِلنَ: المناقلة: حسن نقل القوائم في سرعة السير، أو المناقلة اتِّقاء النقل وهي حجارةٌ صغيرة في الطرق في هذا المكان "نقاب الحجاز".

النقاب: الطرق في الجبال والأشراف.

الشُّمطِ: جمع أشمط، وهو الذي خالط سواد شعره بياض.

النُّهى: العقول.

السريح: السَّريح شِبْهُ النَّعْل تُلْبَسُه أَخْفافُ الإِبل والخيل.

المسير: الذي جعل سيرًا وهو قطعة مستطيلة من الجلد تُشدُّ بها النعال.

يُريحُ علَيَّ الَّليلُ: يرد.

سارحًا: سرَحتِ الماشيةُ: رعَت حيث شاءت.

المقتر: المُقِل.

الشرح:

يُؤكِّد عروةُ أنه لن يسمح بأن يَهلِكَ هذان الحيَّان من عبس من الجوع والحاجة، بينما يعيش مطمئنًّا ولا يقف على حافَّةِ الخطر من أجلهم، وهو صاحب النفس الجريئة المخاطرة، بل سيستمرُّ في الغزو، وستفزع خيولهم أولئك الذين أمِنوا مِن غزوهم لقوتهم أو لتحصنهم أو لبُعْدهم، وستجر إبلهم أمامها، وسيُطاعنون عنها بالقنا وبسيوفهم البِيض الخفاف المعروفة بلونها.

وفي رواية "وقعُهنُّ مُشهَّر"، ويكون في البيت إقواءٌ؛ لأن مشهر ستكون هنا مرفوعة؛ لأنها خبر، ورويت الأبيات بالكسرة.

وسيغزو كلَّ الأماكن التي يصعب الوصول إليها لارتفاعها، لن يترك نجدًا أو جبلًا، ثم يعطينا صورة لتلك الخيل وهي تحمل الفرسان الكبار الذين ابيضَّ شعرُهم، وتتقي تلك الحجارة الصغيرة المنتشرة في جبال الحجاز، وهي في النعال التي تحميها.

ثم يختم أبياتَه بالحديث عن نفسه؛ ليعيد ويؤكد أن همَّه من الغزو ليس جمعَ المال لنفسه؛ وإنما لإسعاد فقراء قومه، فما يأتيه من إبل في الغزو يأتي الضيفان ليلًا، فتكون طعامًا لهم، فإذا جاء الصباح وعادت لمرعاها لا يبقى منها إلا القليل.

 

الأساليب:

1- هنا خاتمةُ النص وفصلُ الخطاب الذي يُؤكِّد فيه أنه لا تراجع، وأنه سيستمرُّ في الغزو من أجل فقراء قبيلتِه، ومِن ثَم يبدأ بالتوجُّه إليها بالسؤال الاستنكاري الذي لا يمكن الموافقة على حدوثه؛ ليلزمها الصمت، فهو لا يمكنه أن يترك قومه يَهلِكُون ولا يخاطر من أجلهم، وله نَفْس مخطر لا تخشى العواقب. 

2- استخدام حرف الجر على في قوله: (على ندب؛ أي على خطر) يُشعِرنا أنه يستعلي على ذلك الخطر، فهو لا يخشاه، أو كأن الخطر هنا هو الدابَّة التي يستعلي عليها للدفاع عن قومه؛ كذلك قوله: "على غارات نجد".

3 - تقديم الظرف والمفعول على الفاعلِ في قوله: (سيفزع بعد اليأس مَن لا يخافنا)؛ لبيان الحالة التي عليها الطرفان؛ فالصعاليك وصلوا لحالة اليأس من الوصول إلى هؤلاء القوم الذين يتمتعون بقوة ومنعة نزعت عنهم الخوف؛ مما يصوِّر مدى الصعوبة التي سيواجهها الصعاليك في غزوهم، ثم تأتي المفاجأة لنرى بعد ذلك خيولَ الصعاليك تسوق إبل القومِ وتطردها أمامها، وكأن التشويق لمعرفة الفاعل كان سببًا أيضًا لهذا التأخير.

4 - عروة يُعطِينا مشاهد حيَّة ومتعددةً للغزوات التي يقودها، فهو يُطاعن عن خيله وكأنه يحميها بالرماح وبالسيوف، وغزواته متعدِّدة في أماكن مختلفة، والخيل من صعوبة الأماكن التي تسير فيها تحاولُ أن تتَّقِي تلك الحجارة، فهي صور تستحق الفخر.

5 - في الصورةِ الأخيرة التي يُظهِر فيها عروةُ كرمَه يلجأ إلى المقابلة بين الليل؛ حيث الضيوف الذين يلجؤون إليه ليلًا فيَنْحَر لهم من إبله الكثيرة، وبين النهار؛ حيث يقلُّ عدد الإبل في مراعيها بعد أن نحر منها ما نحر لضيوفه.

كتابة تعليق

اكت تعليقك هنا

Previous Post Next Post