اقرا ايضا
الطرح الإشكالي
إن كان العلم يستنبط قوانين ضرورية وحتمية في العلوم الدقيقة، فإن هذا الأمر يصبح متعذرا على مستوى العلوم الإنسانية. لأن الموضوع هذه المرة هو كائن يتميز بالوعي والإرادة والقدرة على الاختيار، مما يجعل العلمية تتميز في هذا المجال بالاحتمال والترجيح، نتيجة عدة قضايا تتمثل في العلاقة غير الواضحة بين الذات العارفة وموضوع المعرفة. إضافة إلى صعوبة التفسير والتنبؤ في العلوم الإنسانية. وأخيرا علاقة العلوم الإنسانية بالعلوم الحقة على مستوى المنهج. وهذا ما يمكن طرحه من خلال الإشكالات التالية:
- ما طبيعة العلاقة التي تربط الذات بالموضوع في العلوم الإنسانية؟
- هل العلوم الإنسانية قادرة على فهم وتفسير والتنبؤ بالظواهر؟
- ما الدور الذي لعبته العلوم الحقة في العلوم الإنسانية؟
موضعة العلوم الإنسانية
عوائق موضعة الظاهرة الإنسانية
إن العلوم الإنسانية – في نظر جان بياجي – لها وضعية أكثر تعقيدا مقارنة بالعلوم التجريبية، لأن الذات مُلاحِظة لذاتها ولغيرها، ومجربة على نفسها وعلى غيرها، لهذا تـُخْلَق وضعية التداخل بين الذات والموضوع في العلوم الإنسانية، مقارنة بالعلوم الطبيعية، حيث أصبح من المعتاد الفصل بين الذات والموضوع. إن عملية إزاحة تمركز الذات حول ذاتها، والتي هي عملية ضرورية لتحقيق الموضوعية، تكون أكثر صعوبة في الحالة التي يكون فيها الموضوع هو الذات، نظرا لسببين وهما:
هكذا فالعالِم – في نظر بياجي – لا يكون أبدا معزولا، بل هو ملتزم بشكل ما بموقف فلسفي وإيديولوجي.
مفارقة علاقة الذات بالموضوع
إن كل باحث هو عضو ينتمي لجماعة كبيرة أو صغيرة (سواء كانت طبقة اجتماعية، أو مهنة، أو أمة…)، في نظر فرانسوا بستيان، وبالتالي يكون منخرطا بالضرورة في صراعات صريحة أو ضمنية من أجل الاعتراف، والحظوة، والسلطة، وهي صراعات تحرك المعتقدات والمثل…الخ. وتتمثل الصعوبة لدى الباحث الاجتماعي في كونه لا يستطيع الانفصال كلية عن مجتمعه الذي هو موضوع دراسته، في حين يعتبر هذا الانفصال مبدأ كل جهد علمي (الموضوعية). لذلك نجد كل مجهودات مؤسسي العلوم الاجتماعية قامت على مبدأ تباعد الباحث عن جماعته، حيث دعا “دوركايم” إلى اعتبار الوقائع الاجتماعية أشياء، وكذلك توصية “ماكس فيبر” باحترام مبدأ الحياد القيمي.
التفسير والفهم في العلوم الإنسانية
التفسير والتنبؤ في العلوم الإنسانية
إن العلوم الدقيقة – حسب كلودء ليفي ستروس – تقدمت بفضل عمليتي التفسير والتنبؤ، حيث يمكن لهذه العلوم أن تفسر ظواهر لم تتنبأ بها، كما فعلت الداروينية، كما يمكنها أن تتنبأ بظواهر لا تكون قادرة على تفسيرها، كما يحدث في علم الأرصاد الجوية. أما العلوم الإنسانية، فتجد نفسها في وسط الطريق بين التفسير والتنبؤ، فهي لا تفسر الظواهر تفسيرا نهائيا، ولا تتنبأ بيقين تام، لقد أكتفت العلوم الإنسانية، حتى حدود اليوم، بتفسيرات فضفاضة وتقريبية تنقصها الدقة، ورغم أنها مهيأة، لأن تمارس التنبؤ وتطوره، فإن الخطأ كان دائما حليف تنبؤاتها.
ومع ذلك فإن العلوم الإنسانية – حسب ستروس – يمكن أن تقدم للذين يمارسونها انطلاقا من نتائجها، شيئا وسيطا بين المعرفة الخالصة والمعرفة النافعة، لكن من غير الفصل بين التفسير والفهم.
الفهم في العلوم الإنسانية
إذا كنا نفسر الطبيعة، باعتبارها ظواهر معزولة وخارجية في العلوم الفيزيائية والطبيعية – في نظر دلتاي – فإننا نفهم الإنسان في علم النفس، من خلال فهم حياته النفسية، فعمليات الاكتساب، ومختلف الوظائف العقلية والنفسية وعناصرها تجتمع وتكون كلا يعطى لنا عن طريق التجربة الداخلية. فالكل المعيش هو الأساسي، ولا يتجزأ إلى أجزاء إلا بعد ذلك. وينتج عن هذا أن المناهج التي ندرس بها الحياة النفسية والتاريخ والمجتمع تختلف عن المناهج التي تقود إلى معرفة الطبيعة.
إن العلوم الإنسانية الحقيقية – حسب دلتاي – هي التي تبني منهجها بنفسها، انطلاقا من موضوعها
نموذجية العلوم التجريبية
خصوصية المنهج في العلوم الإنسانية
تعتبر العلوم الإنسانية مقارنة بالعلوم الطبيعية – في نظر كل من طولرا/ وارنيي – حديثة النشأة، أما نتائجها فهي قليلة وغير أكيدة لأن الواقع الحي الذي تحاول الإحاطة به (المجتمعات، العقليات، السلوكيات…)، هو أكثر غنى وأقل انتظاما من الظواهر الطبيعية، وبالتالي فإن استخدام العقل في هذه العلوم مطالب بأن يكون حذرا، كما أن الروح العلمية مطالبة بأن تكون أكثر تطورا من مثيلتها في العلوم الطبيعية، حيث تكون التجربة محكا مباشرا وحاسما.
ويفترض إدراك الموضوع – حسب طولرا/ وارنيي – أن تكون الذات مستعدة لفهم ما يخالفها ويعتبر آخرها. وفي هذه الحالة، تتمثل الروح العلمية في القدرة على استيعاب التناقض والقدرة على مواجهة ما هو غريب ومزعج لكل تلقائية، أي اللقاء الدائم مع الواقع.
خداع النظرة العلمية
إن كل ما أعرفه عن العالَم، ولو كان مصدره العلم – يقول موريس ميرلوبونتي – أعرفه انطلاقا من وجهة نظر خاصة بي، أو أعرفه من خلال تجربتي الخاصة التي بدونها لن تعني رموز العلم أي شيء، لأن العلم يُبنى بكامله على العالم المعيش (أي التجربة الذاتية للأنا) وانطلاقا منه. فأنا الذي أوجد من أجلي أنا، وأنا الوحيد الذي يوجد وجودا متفردا. لا يوجد أحد مكاني ولا أوجد في مكان أحد.
وهكذا فإن وجهة النظر العلمية التي أكون بمقتضاها مجرد لحظة من لحظات العالم هي دائما وجهة نظر خادعة، لأنها وجهة نظر يكون العالم حولي حسبها موضوعا، ولا يوجد لأجلي. إن الرجوع إلى الأشياء ذاتها هو الرجوع إلى العالم المعيش قبل أن يكون موضوع معرفة، وهكذا فكل معرفة للإنسان – حسب ميرلوبونتي – هي معرفة ذاتية، لأن العلم يفترض وجود نظرة موضوعية للذات تتعالى عن كل الذوات، هي في الواقع غير موجودة.
استنتاجات عامة
إن أكثر المعارف فائدة وأقلها تقدما، من كل المعارف الإنسانية، في الآن نفسه، هي تلك المتعلقة بالإنسان – حسب ج. ج. روسو – إنها أكثر فائدة لأنها تدرس الكائن الوحيد في هذا الكون الذي يملك عقلا ووعيا. وأقلها تقدما لأن زمن نشأتها جاء متأخرا جدا. وهي التي تشكل العلوم الإنسانية.
إن العلوم الإنسانية هي علوم مأزومة، لأنها ولدت بأزمتها التي تتمثل، من جهة، في تداخل الذات والموضوع، واضطراب العلاقة بينهما. كما تتمثل، من جهة أخرى، في استعارة مناهج العلوم التجريبية، بدل إبداع مناهج تتواءم وطبيعة موضوعها الذي يتميز بالتعقيد.